النثر العربي عند العرب القدامى
الدكتورة : سوسن رجب
إن من يتصفح أهم كتب النقد والبلاغة العربية يفاجأ بظاهرة غريبة وهي قلة عناية النقاد القدامى بالنثر، في حين أنهم أمعنوا في بحث الشعر من جميع نواحيه تفصيلا وتدقيقا على حد الإفراط أحيانا، فقد تحدثوا عن النثر لا باعتباره فنا قائما بذاته بل تحدثوا عنه كجزء من البلاغة أو البيان حديثا يتسم بالإبهام خاليا من التخصيص أو التحديد.
ولعل من مظاهر هذا الإهمال أننا لا نجد تعريفا صحيحا للنثر قد استوفى ما يشترط في كل تعريف صالح من دقة وإحاطة واستقصاء ، في حين أن الشعر قد حظي بتعريفات لا بأس بها تتسم بالضبط والإحكام، أما النثر فـما ورد في حقه من تعريفات لا تتعدى التقسيم والتصنيف، فهو باعتبار الشكل ينقسم إلى خطب ورسائل، وباعتبار اللفظ يتفرع إلى نثر مرسل ومزدوج وسجع.
أقوال القدامى حول النثر:
يقول ابن وهب: (واعلم أن الشعر أبلغ البلاغة...) البرهان في وجوه البيان،ص350.
ويقول الكاتب المفكر مسكويه: ( فكذلك النظم والنثر يشتركان في الكلام الذي هو جنس لهما، ثم ينفصل النظم عن النثر بفضل الوزن الذي به صار المنظوم منظوما. ولما كان الوزن حلية زائدة وصور فاضلة على النثر صار الشعر أفضل من النثر من جهة الوزن. فإن اعتبرت المعاني كانت المعاني مشتركة بين النظم والنثر. وليس من هذه الجهة تميز أحدهما من الآخر...)
الهوامل والشوامل، ص 275
إن هذه النظرة الجزئية للنثر ـ كما رأيناها في الأقوال السابقة ـ تؤكد موقف النقاد القدامى السلبي من النثر، فهي نظرة جزئية انصرفت على الشكل دون اللُب، إلى الصورة دون الحقيقة والمعنى، وهي التي حالت دون التبلور التام لمفهوم النثر الفني عند القدامى، حتى أن الكتّاب العرب من مفكرين وفلاسفة وقصّاصين ونقاد كانوا يمارسون النثر الفني دون وعي واضح دقيق لمزيّة الفن المتوفرة في كتاباتهم ودون أن يُعترف بفضلهم.
ويقول
الجاحظ
وقد نُقلت كتب الهند،وتُرجمت حكم اليونانية، وحُولت آداب الفرس، فبعضها ازداد حسنا، وبعضها ما انتقص شيئا؛ ولو حُوّلت حكمة العرب لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وحكمهم،ولبطل ذلك المعجز، وقد نقلت هذه الكتب من أمة إلى أمة ، ومن قرن إلى قرن، ومن لسان إلى لسان حتى انتهت إلينا، وكنا آخر من ورثها ونظر فيها، فقد صح أن الكتب ( أي كتب النثر) أبلغ في تقييد المآثر من الشعر.) الحيوان، ج1، ص75
ويقول أبو حيان: ( وأحسن الكلام ما رق لفظه ولطف معناه... وقامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم)، ويقول أيضا: ( إذا نظر في النظم والنثر على استيعاب أحوالهما وشرائطهما .. كان أن المنظوم فيه نثر من وجه، والمنثور فيه نظم من وجه، ولولا أنهما يستهمان هذا النعت لما ائتلفا ولا اختلفا)
يُعد أبو حيان أول من اهتدى إلى حقيقة النثر الفني وحلل مقوماته الجوهرية تحليلا يتصف، على إيجازه، بالدقة والعمق، كذلك بيّن أهمية كل من عنصري العقل والموسيقى في النثر الفني، ومن رأي التوحيدي أن الشعر لا يختص وحده بالموسيقى والخيال، بل هما قدر مشترك بين الشعر والنثر الفني ، والفرق بين النوعين من الكلام نسبي أما الجوهر فواحد.