إن الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء عليهم السلام ، وسبيل العلماء الربانيين ، ولذا كانت أفضل القربات ، وأعظم المقامات .
قال تعالى :"ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين"
والدعوة إلى الله تعالى لابد أن تكون صحيحة المقصد ، سليمة المنهج وهذا هو سبيل دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن تبعه بإحسان ، كما قال عز وجل : "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين"
ولقد سلك سلفنا رحمهم الله هذا الطريق ، فأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر وعلموا الناس الخير ، وبلّغوا البلاغ المبين عبر وسائل متعددة : كالتدريس والحسبة ، والوعظ ، والفتيا ، والقضاء وغيرها ... لقد قام أولئك السلف بهذه الدعوة ابتغاء وجه الله تعالى ، لا يريدون من الناس جزاءً ولا شكوراً وفي الوقت نفسه التزموا بسلامة المنهج من خلال الاتباع وترك الابتداع .
والصحوة الإسلامية المعاصرة بحاجة إلى التعرف على أمثلة عملية ومشاهد واقعية من دعوة السلف الصالح ؛ لكي تكون تلك المواقف حافزاً مشجعاً للتأسي بهم ، والسير على منوالهم .
قال أحد العلماء : ( من نظر في سيرة السلف عرف تقصيره ، وتخلفه عن درجات الرجال ).
وهذه المقالة تحوي جملةً من المشاهد الدعوية من حياة السلف ، نعرضها على النحو التالي :
كان زاذان يشرب المسكر ، ويضرب بالطنبور ، ثم رزقه الله التوبة على يد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فصار زاذان من خيار التابعين ، وأحد العلماء الكبار ، ومن مشاهير العباد والزهاد .
وإليك قصة توبته ، كما يرويها زاذان نفسه قائلاً :
" كنت غلاماً حسن الصوت ، جيد الضرب بالطنبور ، فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذ وأنا أغنيهم ، فمر ابن مسعود فدخل فضرب الباطية (الإناء) فبددها وكسر الطنبور ، ثم قال : لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت ، ثم مضى ، فقلت لأصحابي : من هذا ؟ قالوا : هذا ابن مسعود ، فأُلْقِيت في نفسي التوبة ، فسعيت أبكي ، وأخذت بثوبه ، فأقبل عليّ فاعتنقني وبكى وقال :
مرحباً بمن أحبه الله ، اجلس ، ثم دخل ، وأخرج لي تمراً ".
ولنا وقفة مع هذه القصة ، فمن خلال هذا السياق نلمس صدق ابن مسعود رضي الله عنه وحسن نيته ، وصحة قصده في دعوته لزاذان ، مما كان سبباً في هداية الرجل وتوبته وكما قال عبدالقادر الجيلاني (ت 561 ه) رحمه الله معلقاً على تلك القصة :
[ انظر إلى بركة الصدق والطاعة وحسن النية ، كيف هدى الله زاذان بعبد الله بن مسعود لما كان صادقاً حسن السيرة ، فلا يصلح بك الفاسد حتى تكون صالحاً في ذات نفسك ، خائفاً لربك إذا خلوت ، مخلصاً له إذا خالطت غير مراء للخلق في حركاتك وسكناتك ، موحداً لله عز وجل في ذلك كله وحين يزاد في توفيقك وتسديدك ، وتحفظ عن الهوى والإغواء من شياطين الجن والإنس والمنكرات كلها والفساق والبدع والضلالات أجمع ، فسيزال بك المنكر من غير تكليف ، ومن غير أن يصير المعروف منكراً ، كما هو في زماننا ، ينكر أحدهم منكراً واحداً ، فيتفرع منه
منكرات جمة ، وفساد عظيم .. ].
وأمر آخر نستفيده من هذه القصة ، وهو أن ابن مسعود رضي الله عنه سلك أُولى الوسائل الشرعية في تغيير المنكر ، فلما كان قادراً على تغيير المنكر بيده ، أزاله بيده فكسر الطنبور ، وأتلف وعاء النبيذ .
لقد ضرب ابن مسعود رضي الله عنه مثالاً رائعاً في الشجاعة والإقدام على الصدع بالحق ، وتغيير المنكر ، لا يخاف في الله لومة لائم ، مع كونه وحيداً ، وهم جماعة كما هو ظاهر سياق القصة ، إضافة إلى قصره ونحافته رضي الله عنه .
لكن لما كان ابن مسعود معظماً لحرمات الله تعالى وشعائره أورثه ذلك مهابةً وإجلالاً .. وصدق عامر بن عبد القيس رحمه الله حيث يقول : [ من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ، ومن لم يخف الله ، أخافه الله من كل شيء].
ومع هذا التغيير باليد ، فإننا ندرك مدى شفقة ابن مسعود رضي الله عنه وكمال رفقه ، وتمام نصحه لزاذان ، فإن زاذان لما أقبل تائباً ، أقبل عليه ابن مسعود رضي الله عنه وعانقه وبكى فرحاً بتوبة زاذان ، وحياه بأجمل عبارة مرحباً بمن أحبه الله ، كما قال سبحانه : " إن الله يحبَ التوابين ويحبَ المتطهرين" ، ليس هذا فحسب بل أجلسه وأدناه ، وأعطاه تمراً .
وهكذا كان أهل السنة يعلمون الحق ويدعون إليه ، ويرحمون الخلق وينصحون لهم .
كما نلحظ من هذه القصة ذكاء ابن مسعود وفطنته ، فانظر كيف استجاش زاذان إلى التوبة ، فإن زاذان كان مغنياً حسن الصوت ، فقال له ابن مسعود : [ لو كان ما سمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن لكنت أنت أنت ]
وفي رواية قال : [ ما أحسن هذا الصوت ! لو كان بقراءة كتاب الله تعالى كان أحسن ].
إن التوجيه السديد للمواهب والقدرات ، ووضعها في محلها الملائم شرعاً ، إضافة إلى مراعاة طبيعة النفس البشرية ، والعلم بنوازعها ومشاعرها ، عامل مهم لنجاح الدعوة فإن النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء فلابد من مراعاة [ البديل ] المناسب ، وهذا ما فقهه ابن مسعود رضي الله عنه وغاب عن الكثيرين .
يقول ابن تيمية : [... الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه ، فلا ينهى عن منكر إلا ويأمر بمعروف يغني عنه كما يأمر بعبادة الله سبحانه ، وينهى عن عبادة ما سواه ، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله ، والنفوس خلقت لتعمل ، لا لتترك ، وإنما الترك مقصود لغيره ]. هذا مشهد من مشااااااااااهد السلف ... فالله الله في التأسي بهم ، فمن كان مستناً فليستن بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة .